فصل: مسألة الأمر بإتقان العمل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة صيام أيام الغر:

في صيام أيام الغر وسئل مالك: عن صيام الغر الثلاثة الأيام: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، فقال: ليس هذا ببلدنا وإني لأكره أن يتعمد صيامها، وقال: الأيام كلها لله.
قال الإمام القاضي: وقعت هذه المسألة في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب الصيام. وقد روي فيها وفي الأيام البيض، وهي أول يوم من الشهر، ويوم عشرة، ويوم عشرين، أنها صيام الدهر. وقد روي عن مالك: أنه كان يصوم الأيام البيض. وقد كتب إلى هارون الرشيد في رسالته يحضه على صيام الأيام الغر، ويذكر الحديث فيها. فإنما كره في هذه الرواية صيامها ولم يحض عليها مخافة أن يكثر العمل بذلك لكثرة إسراع الناس إلى الأخذ بقوله، فيحسب ذلك من لا علم عنده من الواجبات. وقد ذكرنا ذلك هناك.

.مسألة ركوب البحر:

في ركوب البحر قال: وقال مالك: استأذن معاوية بن أبي سفيان عمر بن الخطاب في ركوب البحر فأبى أن يأذن له، فلما ولي عثمان بن عفان، كتب إليه يستأذنه، فأبى ثم رد عليه، فكتب إليه عثمان: إن كنت تركبه بأهلك وولدك، فقد أذنت لك، فركبه معاوية ومعه امرأته بنت قرطة، قال مالك: سأل عمر بن الخطاب عمرو بن العاص عن البحر فقال: خلق ضعيف، دود على عود، إن ضاعوا هلكوا، وإن بقوا فرقوا، قال عمر: لا أحمل فيه أحدا، فلما كان بعد عمر، حمل فيه، فلم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز، فاتبع فيه رأي عمر بن الخطاب.
قال محمد بن رشد: البحر على ما وصفه به عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فلا شك في أن ركوبه غرر، وقد اختلف القضاء من عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، في إباحة ركوبه للناس، فمنع من ذلك عمر بن الخطاب وتبعه في ذلك عمر بن عبد العزيز، وأباحه عثمان بن عفان وبإباحته استمر الأمر بعد خلافة عمر بن عبد العزيز إلى هلم جرا، وهو الأظهر لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] لأنه يبعد أن يعدد الله من نعمه على عباده ما حظره عليهم. ووجه المنع من ذلك أن قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] لما احتمل أن يكون إخبارا بما يفعلون لا يقتضي الإباحة، وجب أن يمنع من ذلك لما فيه من الغرر، تعلق بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وبظاهر قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وهذا في ركوبه في الحوائج وطلب المال والتجارة وأما في ركوبه في الجهاد والحج، فلا اختلاف في جواز ركوبه في ذلك، لم يختلف فيه قضاء الخلفاء والله أعلم. لأن السنة قد دلت على جوازه وذلك «قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لأم حرام حين نام عندها ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت له: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون لجج هذا البحر، ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» يريد في الجنة، جزاء غزوهم في البحر، يركبون لجه، وإذا جاز في الغزو، فأحرى أن يجوز في الحج. وهذا إذا ركب في إبان ركوبه، وأما في حين ارتجاجه فلا يجوز ركوبه في غزو ولا حج ولا غيره.
وهذا هو معنى قول عثمان بن عفان لمعاوية: إن كنت تركبه بأهلك وولدك، فقد أذنت لك، أي: إن كنت تركبه في إبان ركوبه، وفي حال ترجو السلامة فيه، ولا تكون مغررا بأهلك وولدك، فقد أذنت في ركوبه في هذه الحال، والله أعلم.

.مسألة فيما يذكرعن المغيرة بن شعبة في نكاح النساء:

فيما يذكر عن المغيرة بن شعبة في نكاح النساء قال مالك: قال المغيرة بن شعبة، وكان نكاحا للنساء، وكان ربما اجتمع عنده أربعة، ثم يفارقهن جميعا، قال: كان يقول: صاحب المرأة الواحدة إن مرضت مرض معها، وإن حاضت حاض معها، وصاحب المرأتين ناران تشتعلان.
قال محمد بن رشد: في هذا وصف ما كان عليه المغيرة بن شعبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مما وهبه الله إياه من القدرة على كثرة الاستمتاع بالمباح من النساء، وتلك فضيلة في الدنيا والآخرة؛ لأن الرجل يؤجر في وطء زوجاته وجواريه وفي الاغتسال من وطء كل واحدة منهن كلما وطئها، فهو يستمتع بالحلال، ويؤجر باستمتاعه به، فأي موهبة أعظم من هذه. وبالله التوفيق.

.مسألة الأميرين في الغزو أحدهما في البر والآخر في البحر يجتمعان:

في الأميرين في الغزو، أحدهما في البر، والآخر في البحر يجتمعان قال مالك: أَمَّرَ عثمان بن عفان- عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، عمرو على البر، ومعاوية على البحر، فإذا اجتمعا فمعاوية الأمير، فلما بلغا رأس مغزاهما أرسل معاوية إلى عمرو أن يأتيه فأبى فأرسل يعزم عليه، فقال عمرو: وأنا أعزم على نفسي ألا آتيك، فقال معاوية: فادن مني على شاطئ البحر، فأتى عمرو على قوس متوكئا عليها، فكلمه ما شاء الله، فقال له معاوية: أشات أنت أم أمه؟ فقيل لمالك: ما أراد أشات أنت؟ قال: يثنون، فقال: أمه؟ فقال: قافلون.
قال محمد بن رشد: وقع في موطأ ابن وهب: أشاتون أم أمه؟ فقال: أمه، فقفلوا جميعا. وإنما لم يأت عمرو معاوية إذ عزم عليه في الإتيان إليه، إذ لم يجب عليه الإتيان إليه من أجل أنه لم يجعل له عليه عثمان بن عفان إمرة إلا إذا اجتمعا. ولعله قد كانت عليه في الإتيان إليه مشقة، ولما سأله أن يدنو منه أجابه إلى ذلك لخفة الأمر عليه. والحكاية كلها بينة، لا إشكال فيها، وفيها إجازة الغزو في البحر وقد ذكرنا فوق هذا أنه مما لا يختلف في جوازه.

.مسألة المؤمن إذا غدر:

في أن المؤمن إذا غدر لم يلزم الوفاء له بالإيمان وسئل مالك: عن أهل قبوس فيما كتب إليه عبد المالك بن صالح إلى مالك من أمرهم، فقال: رأيت لهم عهودا كثيرة من معاوية وعبد المالك وسليمان وغيرهم، فقلت: يا أبا عبد الله، فإن عرف منهم عدو، أترى أن يجلوا؟ قال: إني لا أرى ذلك إن عرف وتبين أن يجلوا منها.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله؛ لأن الوفاء بالأيمان واجب. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34]، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم»، وقال: «يجبر على المسلمين أدناهم». فإذا أمن الإمام أهل البلد أن يقروا ببلدهم لزم ذلك من بعده من الأئمة، ولم يكن له أن ينقضه، فيجليهم عن ذلك البلد إلا أن يحدثوا ما يوجب ذلك عليهم. وبالله التوفيق.

.مسألة يوصي أن يحبس جواريه:

في الذي يوصي أن يحبس جواريه المدة الطويلة وسئل مالك: فقيل له: إن محمد بن سليمان أوصى في جواريه أن يحبسن سبعين سنة، ثم هن أحرار، فسأل أمير المؤمنين عنهن بعض من حضره، فقال مالك: ما رأى في ذلك؟ فقال: منهم من رأى أن يبقين، ومنهم من رأى أن يحبسن، قال مالك: يبعن أو يعتقن.
قال محمد بن رشد: قول مالك: يبعن أو يعتقن، معناه: ينظر السلطان فيه، فإن رأى أن يبعن بعن، وإن رأى أن يعتقن أعتقن وعجل عتقهن، هكذا قال في رسم المُحرم يتخذ الخرقة لفرجه من هذا السماع من كتاب العتق. ووجه النظر في ذلك أن ينظر في ذلك، فمن كان له منهن من السن ما يعلم حقيقة أنها لا تعيش سبعين سنة، بيعت إذ قد علم أن العتق لا يدركها، فهي كمن أوصى لها بعتق بعد موتها، ومن كان لها منهن من السِن ما يمكن أن تعيش إليه عجل عتقها؛ لأن بقاءها سبعين سنة، من الضرر البين بها. وقد زدنا المسألة هناك بياناً، وذكرنا ما فيها من الاختلاف.
وأما قول من قال: إنهن يُبعن أو يحبسنَ جملة من غير أن ينظر إلى أسنانهن يوم أوصى، فلا يصح، إلا أن يستوي أسنانهن في أنه يعلم في أنهن لا يعشن سنة، أو في أنه يشبه أن يعشن أكثر من السبعين، واللَّه الموفق.

.مسألة ما يروى من مناقب سعد بن معاذ:

فيما يروى من مناقب سعد بن معاذ قال مالك: لما كان يوم بدر، قَالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أشِيرُوا عَلًيّ، فَقَامَ أبُو بَكر، فَتَكًلّمَ ثمَّ قَالَ: أشِيرُوا عَلَيَّ فَقَامَ عُمَر، فَتَكًلّمَ، ثمَّ قَعَدَ، ثَمّ قَالَ: أشِيرُوا عَلَيَّ، فَقَالَ سَعدُ بْنُ مُعَاذٍ: كَأنَّكَ إِيَّانا تُرُيدُ يَا رَسُولَ اللهِ لَا نَقولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيل: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، وَلَكِنْ اذْهَبَ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا مَعَكُم مُتبِعونَ، لَوْ أتَيْتَ الْيَمَنَ لَسَلَلْنَا سُيُوفَنَا وَاتَّبَعْنَاكُم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا مَصَافَّكُم».
قال محمد بن رشد: هذا المقام المحمود من مناقب سعدٍ المأثورة وهي كثيرة؛ لأنه من فضلاء الصحابة، وكفى من الشهادة لفضله اهتزاز عرش الرحمن لِمَوتهِ. وقد مضى قبل هذا شيء من خبره وقد وقع في البخاري «عَن عبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قَالَ: شَهدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأسْوَدِ مَشْهَدَاً لأنْ أكُونَ صَاحِبَه أحَبًّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أتَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْم موسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَشِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ، قَالَ: فَرأيْتُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أشْرَق وَجْهُهُ وَسَرَّهُ قولُه».

.مسألة انحياز السرية إلى العسكر:

في انحياز السرية إلى العسكر وسئل مالك: عن القوم يكونون في الغزو فيبعث السرية القليلة نحواً من عشرين أو ثلاثين، فيلقون أضعَافهم من العدو، فيكثرون عليهم، فيريدون أن ينحازوا إلى أصحابهم، أترى لهم في ذلك سَعة؟ قال: نعمٍ. وتأول كتاب الله: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] قيل له: أفترى ذلك واسعاً لهم فيما بينهم وبين ما في القرآن؟ قال: نعم.
قال الإِمام القاضي: هذه مسألة فيها نظر لأنه لم ير لهم سعة في الانحياز إلى أصحابهم، إلا إذا كان الذين لقوا من العدو أكثر من أضعافهم، والذي يدل عليه القرآن، أن للجماعة أن تنحاز إلى فئتها وإن كان العدد الذين لقوا أقل من مثلهم، إذ ليس انحيازهم إلى فئتهم ليكروا ثانية فِراراً. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] الآية، فدل ذلك على أنه ليس بفار من تحيز إلى فئة ليعود، وقد جاء بيان ذلك في السنة، رُوي «عنْ عَبد الله بْنِ عُمَر أنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَ النَّاسُ حيْصةً، فَكنْتُ فِيمَنْ حَاصَ فَقُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِن الزَّحْفِ، وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟ فَلَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَة فَبِتْنَا فِيهَا، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أنْفُسَنَا عَلَى رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ، وَإِلاَّ ذَهَبْنَا، فَأتَيْنَاه قَبْلَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ، فَخَرَجَ فَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ فَقُلْنَا: نَحْنُ الفَرَّارُونَ. قَالَ: بَلْ أنْتُمُ الْعَكَّارُونَ، أنَا فئَتكُم وَأنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَأتَيْنَاهُ حَتَّى قَبَّلْنَا يَدَيْهِ». والعكارون هم الكرارون، فالمعنى في ذلك: أنهم لما كروا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو فئتهم ليرجعوا إلى ما يأمرهم به، كان ذلك كرّاً منهم إليه، وعودةً إلى ما كانوا عليه من بذلهم أنفسهم لقتال عدوهم، فاستحقوا بذلك اسم العَكَّارِين، لا الفرَّارِين. وهذا عندي من خواص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يكون الِإمام فئة للسرية إذا خرجت من عنده فأقام هو- يعنِي الِإمام- في بلده، وإنما يكون فئة لها إذا أخرجها من عسكره، فلقيت جماعة، وإن كانت أقل من مثليها فانحازت إلى الفئة التي خرجت منها. والله الموفق.

.مسألة عدة أصحاب بدر:

في عدة أصحاب بدر وسئل عن عدة أصحاب بدر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: ثلاثمائة وثلاثة عشر.
قال محمد بن رشد: في الصحيح للبخاري عن البراء بن عازب قال: كنا أصحاب محمد نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضع عشرة وثلاثمائة. وقد قيل: إنهم كانوا سبعة عشر وثلاثمائة، ثمانون رجلاً من المهاجرين كلهم شهدها بنفسه، إلا ثلاثة رجال، وهم: عثمان وطلحة وسعيد بن زيد فلم يشهدوها بأنفسهم. وضرب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهامهم وأجورهم، فهم كمن شهدها، واحدٌ وستون رجلًا من الأوس، ومائة وسبعون رجلاً من الخزرج، واثنان من الأوس. ذكر ذلك ابن عبد البر في الدرر في اختصار السير.

.كتاب المغازي:

في كتاب المغازي وسُئل مالك: عن المغازي أَتَرى أَن تكتب؟ فأنكر ذلك وقال: ما أدركت الناس يكتبونها، فقيل له: مَن الناس؟ أهل الفقه؟ فقال: نعم، ولا أرى أَن تكتب، ولا أُحب أن أَكتبها، ولا أبتدع ذلك، وما وجدت الناس أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ والتابعين، القاسم وسعيد وسالم، يكتبونها. ولقد أدركت شيخاً كبيراً قد زاد على المائة خمس سنين ما يقبل منه حديثه، وُيعاب ذلك على من يقبله ويجرح.
قال محمد بن رشد: إنَّما كره كتاب المغازي بطولها مخافة مواقع الكذب فيها، وإذ ليس في سياقتها بكمالها فائدة، من تحليل أو تحريم، تعبد الناس بحفظه والتفقّه فيه، كالأحاديث المروية عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في الأحكام، ووقع في بعض الكتب مكان يجرح يطرح، والمعنى في ذلك سواء.

.مسألة الأمر بإتقان العمل:

في الأمر بإتقان العمل وحدَّثنا مالك: «أَن رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ فَكَأَنَّهُ رأى في لَبنَةٍ خَلَلًا فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُصْلَح، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلاً أَنْ يُحَسِّنَهُ أَوْ يُتْقِنَه».
قال محمد بن رشد: هذا حديث بيِّن المعنى، ليس فيه ما يخفى فيحتاج أَن يُبَيَّن.

.مسألة صفة مصحف مالك المكتوب على عهد عثمان:

في صفة مصحف مالك المكتوب على عهد عثمان قال ابن القاسم: وأخرج إلينا مالك مصحفاً لجدِّه، فحدَّثنا أنه كتب على عهد عثمان بن عفان، فوجد حليته فضة وأغشيته من كسوة الكعبة، فوجدنا في البقرة: وَأَوْصَى وفي آل عمران: سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. وفي المائدة: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا وفيها أيضاً: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ وفي براءة: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وفي الكهف: لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهما مُنْقَلَبًا وفي قد أفلح: كلها الثلاث لله، وفي طسم باخِعٌ: {فتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} وفي حمِ عسق: {فَيمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وفي الزخرف: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} وفي الحديد: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وفي الشمس وضحاها: {فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} وفي الطوْل: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وأَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}.
قال الِإمام القاضي: ما ذكر ابن القاسم في هذه الحكاية من أنه وجد في المصحف الذي أخرج إليهم مالك لجده المكتوب على عهد عثمان، في البقرة، وفي آل عِمران، وفي المائدة، وفي براءة، وفي الكهف، وفي قد أفلح، وفي طسم، وفي الطول هو كله مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا في المصاحف، وأما الذي ذكر أنه وجده في حم عسق، وفي الزخرف، وفي الحديد، وفي الشمس وضحاها، فهو خلاف ما ثبت بين اللوحين عندنا في المصاحف؛ لأن الذي ثبت عندنا في حم عسق بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وفي الزخرف: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وفي الحديد فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وفي الشمس وضحاها: فلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ولا تأثير في هذا الاختلاف، إذ لا يتغير بشيء منه المعنى ولا اختلاف أحفظه في إجازة تحلية المصحف بالفضة، وأما تحليته بالذهب فأجيز وكره، وظاهر ما في الموطأ إجازته، وقد أقام إجازة ذلك بعض العلماء من حديث فرض الصلاة قوله فيه: «فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي ثم غَسَلَهُ بِمَاءَ زَمْزَمَ، ثمَّ جَاءَ بطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ ممتلئ حِكْمَةً وَإِيْمَاناً فَأفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ثمَّ أطْبَقَهُ»، والمعنى في إقامة ذلك منه خفي وقد يبثه في موضعه، وبالله التوفيق.

.مسألة المعنى الذي من أجله تركت البسملة في براءة:

في المعنى الذي من أجله تركت البسملة في براءة قال مالك في أول براءة: إنما ترك من مضى أَن يكتبوا في أولها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فكَأَنَّه رآه من وجه الإتباع في ذلك، وكان في آخر ما أنزل من القرآن، وسمعته يقول: أخبرني ابن شهاب: أن القتل استحر يوم اليمامَة في القراء وحَمَلَة القرآن في خلافة أبي بكر الصديق، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو جمعت القرآن فإني أخاف عليه، أن يذهب، فقال: أفعلُ ما لم يفعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يزل يكلمه حتى عطفه بعض العطف، ورأى ما قال، فوقف واستشار أَصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأوا ذلك، فجمعه أَبو بكر، وكتبه في الصُّحف، فلمَّا مات أبو بكر، قبضه عمر، وكان عنده، فلما مات أوصى إِلى حفصة، فقبضته حفصة، وكان عمر أَوصى إِليها وذلك في رأْيي لمكانتها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبضت حفصة الكتاب، فلما ولي عثمان بن عفان، اختلف الناس في اختلاف القرآن اختلافاً شديداً، حتى إِن كان الرجل ليقول للرجل أَنا أكفُر بالذي تقول، فلما رأى ذلك عثمان بن عفان، بعث إلى حفصة يسألها الكتاب فأتت عليه فأعطاها أيماناً أخذتها عليه لا يزيد فيه حرفاً ولا ينقص منه حرفاً، وأن يردها عثمان بن عفان وجميع القراء، وأرسل إلى البلدان وجميع قراء الناس، حتى إن كان الِإنسان ليأتي بالآية في جريدة فكتبه عثمان بن عفان، وردَّه إليها، وبعث في الأجناد يأمرهم بالقراءة، فلما كان مروان بن الحَكم، أرسل إلى تلك الصحف التي كانت عند حفصة فأَحرقها بالنار.
قال محمد بن رشد: ما تأوّله مالك من أنه إنَّما ترك من مضى أَن يكتبوا في أَول براءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من وجه الإتباع، المعنى فيه، والله أعلم: أنه إنما ترك عثمان ومن كان بحضرته من الصحابة المجتمعين على جمع القرآن البسملة بين سورة الأنفال وسورة براءة، وإن كانتا سورتيِن، بدليل أن براءة كانت من آخر ما أَنزل الله من القرآن، وأَن الأنفال أُنزلت في سنة أربع، اتباعاً لما وجدوه في الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر، وكانت عند حفصة. وقَدْ رُوِي عَنِ ابْنِ عًبّاس أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، مَا حَمَلَكُم أَن عَمَدْتُمْ إِلَى الَأنْفَال، وهي مِنَ المَثَانِيَ وَإِلَى بَرَاءَة وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَارَنْتُم بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُما سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتمُوهَا فِي السَّبْع الطُّوَل، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُوْلُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنا يَأتِي عَلَيْهِ الزَّمانُ، وَهُوَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ وَدَخَلَ بَعْضُ مَنْ يَكْتُبُ، يَقُوْلُ: ضَعُوا هذَا فِي السُّورةِ الَّتِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ قَالَ: ضَعُوا هَذِه الآيَاتِ فِي السُّورَةِ التِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الَأنْفَالُ مِنْ أَوَائِل مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَة مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ- يَعْنِي نزولَاَ- وَكَانَتْ قَصّتُهَا شَبِيهَةً بِقصَّتِهَا، فَظَنَنْت أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْهَا، وَتُوفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْها فَمِنْ أَجل ذَلِكَ قَارَنْتُ بَيْنَهُمَا ولم أكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْع الطُّوَل.
في حديث ابن عباس هذا عن عثمان بن عفان أنه ظنَّ أَنها منها، ولذلك لم يكتب بينهما بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَذلك خلاف لما ذهب إِليه مالك من أنها ليست منها وأنها سورة أُخرى فاتبع ما وجد في المصحف من ترك الفصل بينهما بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وهو الأظهر أنها ليست منها، وأَنَّها سورة أخرى بدليل افتراقهما في النزول، وبدليل ما روي عن أوس بن حذيفة أنه قال: سألتُ أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف كنتم تحزِّبون القرآن؟ قالوا: كنا نحزِّبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، يريدون: وحزب المفصل، إِذ قيل: إن الثلاث سور من أَول القرآن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والخمس سور: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءة، والسبع سور: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحْل، والتسع سور: إِسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحجر، والمؤمنون، والنور، والفرقان، والِإحدَى عشرة الطواسِين، والعنكبوت، والرُّوم، ولقمان، والسجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس والثلاث عشرة: والحاقة، وصاد والزُّمر، وحم، يعني إلى حم، وسورة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، والفتح، والحجرات، وحزب المفصل، إلَا أنه لما احتمل أن يكونا سورة واحدة لاشتبَاه قصصهما، وإذ قد يجتمع في السورة الواحدة ما أُنزل في أزمان متباعدة ولم يأت عن النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نص بأنهما سورتان، ولم يجد عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الصحف بينهما فصل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اتبع ما وجده فيها، فكان إتباعه لذلك في موضع الاحتمال، لا في موضع اليقين. والله أَعلم بالحقيقة في ذلك كيف كان. وقد قيل: إنَّما ترك عثمان الفصل بين السورتين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لأنها حروف رحمة، وسورة براءة ليست من جنس ما تراد به الرحمة؛ لأنها إنما هي وعيدات، وتخويفات، ونقض عهود، وِإبانةُ نفاق مَن نافق، وهذا يرده البسملة في: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وقيل: إِنَّه إنما ترك الفصل بينهما بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إعظاماً لمخاطبة المشركين به، وهذا يرده ما في كتاب الله من قصة سليمان في كتابه إلى صاحبة سَبَأ وما في سنّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ من كتابه إِلى المشركين: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وِإنَّما أخذت حفصة الأيمان على عثمان في الصحف أَن لا يزيد فيها ولا ينقص منها؛ لأنها اؤتُمنت عليها، فلم ترد أن يغير شيئاً منها بزيادة ولا نقصان فوفَّى لها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعنها بما وعدها به، وحلف لها عليه، وصرفها إِليها على حالها، بعد أن كتب ما فيها وزاد إليها ما خرج عنها ممَّا ثبت عنده أنَّه قرآن بنقل الكَّافةِ عن الكافة، لا بالشهادة على ذلك، وما جاء من أَن عثمان كان لا يثبت آيةً في المصحف حتى يشهد عنده فيها رجلان، ليس معناه حتى يشهدا عنده أَنَّها من القرآن، وِإنَّما معناه حتى يشهد عنده كل واحد منهما أَنَّه أَخذها عن النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِن فيه، لا من غيره عنه، وعلى موضعها من السورة التي هي منها مع حصول العلم أنها من القرآن باستفاضة نقل الكافة عن الكافة، فما ذكر من أن الِإنسان كان يأتي بالآية في جريدة، معناه: كان يأتي بالآية فتذكر، ويعلم أنها قرآن فيثبتها في المصحف بعد الشهادة عنده على موضعها من السورة، وعلى سماع من فِي النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وأثبت الآيتين من آخر سورة براءة قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]... إلخ السورة، بشهادة رجل واحد لِما تضمنتهُ مما هو معلوم من صفات النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وقد مرَّ بي فيما أحسب أَنَّه إِنَّما أَثبتها بشهادة خزيمة بن ثابت إِذ قد جعل رسول الله شهادته كشهادة رجلين. ولما حصل العلم على أَن ما تضمنه مصحف عثمان، هو جميع القرآن لا زيادة فيه ولا نقصان منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] رأى مروان بن الحكم مع استشارته مع علماء عصره أن يحرق الصحف المجموعة من القرآن، في زمن أبي بكر الصدّيق إذ كانت لم تستوعب جميعه، وبالله التوفيق.

.مسألة الِإقبال على الذكر بعد الصبح وترك الكلام:

في الِإقبال على الذكر بعد الصبح وترك الكلام قال مالك: وكان نافع مولى ابن عمر؛ وسعيد بن أَبي هند، وموسى بن ميسرة، يجلسون بعد الصبح يذكرون الله ثم ينصرفون حين السُّبحة وما يكلم أحد منهم صاحبه.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في الصلاة الثاني من المدونة بهذا المعنى سواء، وزاد فيها: يفترقون للركوع، يريد أنهم كانوا يجلسون في مواضعهم التي يصلون فيها للذكر، وما يكلم أحدهم صاحبه، فإِذا حلَّت الصلاة تفرقوا لركوع الضحى، ثم انصرفوا وهذا على ما ذهب إليه مالك من أنه يكره الكلام بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، ولا يكره فيما بين ركعتيّ الفجر إلى صلاة الصبح، لما روي عن عائشة أَنَّها قالت: «إِنَّ النَبيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقهِ الأيْمَنِ، فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَانَةً حَدَّثَنِي حَتَّى يَأتِيَهُ ألْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، وَذلِكَ بَعْدَ طُلُوع الْفَجْرِ». وأهل العراق على ضد قول مالك يكرهون الكلام بعد ركعتيّ الفجر إلى صلاة الصبح، ولا يرون به بأساً بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. وقال أحمد بن خالد: والسنّة ترد ما قالوا. وما قال مالك حديث عائشة هذا يرد ما قاله أهل العراق وحديثه: أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حًوّلَ وَجْهَهُ إِلَى النَّاس، وَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رًؤْيا؟ يرد ما قاله مالك، وَحدُّ المكروه ما كان في تركه ثواب، فإِذا ترك الرجل الكلام بعد صلاة الصبح وأقبل على الذِكر أجر على الذكر، وعلى ترك الكلام، وإن ترك الكلام ولم يذكر الله أجر على ترك الكلام عند مالك، وعند أهل العراق لا يؤجر على الذكر خاصة، إِن ذَكر الله، كما يقول مالك في ترك الكلام بعد ركعتي الفجر إلى صلاة الصبح، وبالله التوفيق.

.مسألة الاختيار في قيام رمضان:

في الاختيار في قيام رمضان وسئل مالك: عن القيام في رمضان: أَمع الناس أحبُّ إليك أم ينصرف إلى منزله؟ قال: بل ينصرف إلى منزله، وليس فيه شك، إذا كان ممن يقرأُ القرآن ويقوى عليه، وما قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا في بيته. وحدثنا مالك: أن يزيد بن عبد الله بن هُرمز كان ينصرف إلى منزله، ويقوم بأهله، وكان ربيعة بن عبد الرحمن ينصرف ولا يقوم مع الناس، قال مالك: الانصراف لمن قوي عليه أفضل.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال، والحجة في ذلك قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أفْضَلُ الصلاَةِ صَلَاتُكُم فِي بُيُوتِكُم إلَّا الْمَكْتُوبَةَ»، وقول عمر بن الخطاب إذ جمع الناس على قارئ واحد: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالتِي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضل مِن الَّتِي تَقُومُونَ. يعني آخر الليل. وكان الناس يقومون أوله وهذا للرجل في خاصة نفسه، ما لم يكن ذلك سبباً لتعطيل القيام في المسجد؛ لأنها سنة أحياها عمر بن الخطاب لما ارتفعت العلة التي من أجلها ترك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القيام في رمضان بالناس في المسجد، وذلك «أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثمَّ صًلّى الْقَابِلَةَ، فَكثرَ النَّاسُ، ثًمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أًو الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجُ إلَيْهِم رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلًمّا أَصْبَحَ قال: رَأَيْتُ الَّذِي صَنعْتم فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوج إلَيْكُم إلّاَ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُم». وَذَلكَ فِي رَمَضَانَ. وَقَد قالت عائشة: «إِن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَع الْعَمَلَ وَهُو يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ الناسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِم». ومن أهل العلم من رأى القيام مع الناس في رمضان في المسجد أفضل من الصلاة في البيوت؛ لأنها سنة لا ينبغي تضييعها، وهو قول محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم من أصحاب مالك.
وذهب الليث بن سعد إلى نحو ما اخترناه، فقال: لو أَن الناس كلهم قاموا في رمضان لأنفسهم ولأهليهم حتى تركوا المسجد لا يقوم فيه أحد لكان ينبغي أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه في رمضان؛ لأن قيام الناس بالمسجد في رمضان من الأمر الذي لا ينبغي تركه، وهو مما سن عمر بن الخطاب وجمعهم عليه.
قال: فأما إذا كانت الجماعة قد قامت في المسجد فلا بأس أن يقوم الرجل لنفسه في داره لأهل بيته، ومن حجة من ذهب إلى هذا قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَلَيْكُم بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَاشِدِينَ مِنْ بَعْدي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنوَاجِذِ».